هل نضب ماء دمشق؟
استيقظنا ذات صباح على شعر نزار قباني و هو يتغنى بمدينة الياسمين قائلاً: ” كتب الله أن تكوني دمشقاً .. بك يبدأ وينتهي التكوين … علمينا فقه العروبة يا شام، فأنت البيان والتبيين… إن نهر التاريخ ينبع في الشام… أيلغي التاريخ طرحٌ عجين؟”
تربعت مدينة دمشق عبر تاريخها عرش الصدارة في جمالها وعروبتها، إذ ابتغى لها أن تكون أرض الله المسقية. زارها معظمنا وشعر بأنه في الجنة، أو أنه في منتصف الطريق اليها، يحاور أولئك الذين سبقوه من عظماء وربما أيضاً أولئك الذين سيأتون.
دمشق هي أرض الفن، مائها هو فنها، وفنها هو ساكنوها. الشاميون هم الأرض المسقية، هم ماء دمشق ودمها. لولا أهلها، لما أعطينا للعروبة أهميتها، لولا نزار والكواكبي والمعري وطرابيشي وغادة وأدونيس وسعد الله ونوس وحنا مينه وغيرهم الكثير، لما كان الأدب العربي ما هو عليه الْيَوْمَ. لولا الموهبة في كتابة النصوص المسرحية والدرامية لدى السوريين، لما ارتقينا بالفن المسرحي، لولا ابتكارهم في الرسم والفن التشكيلي، لما عرفنا فن الوقوف أمام عمل والتحديق به طويلاً من كثرة الإعجاب.
ما زلت أستذكر آخر مرة حدقت فيها فترة طويلة أمام لوحة فنانة سورية عزيزة جداً على القلب، وكيف أغوتني المرأة التي على صدر اللوحة بنظراتها الهادئة التي إن حكت روح مشاهدها، قالت له بأنها تفتقد الحب وتترقب بفارغ الصبر السلام في مسقط رأسها. تعتلي هذه المرأة عرش اللوحة ونظراتها بواحة بحقائق كثيرة، تتلاقى نظراتنا وأشعر بها تقول لي بأن الحياة ليست هنا، ليست فوق طاولة الصالون الكائنة في شقة في حي فرنسي، وإنما في مكان آخر، في موضعها الأصلي بجانب شرفة تطل على شمس الشام، التي تسقيها حباً ونور. ما زلت أستذكر باقي اللوحات التي استعرضتها هذه الفنانة أمامي، ورسمها أكثر من مرة للجامع الأموي، ما زلت أتذكر شغفها بشرح تفاصيل اللوحة وتغنيها بهذا المعلم التاريخي الذي تهفو اليه الأفئدة، ورغبتها بالعودة.
إن الحرب شيء فظيع. لقد أهلكت الحرب مجمع السوريين وأبعدتهم عن أرضهم المسقية. لقد كان منهم من أنتج ومن أبدع، ثم أضحى فجأة فرداً غير مرئي، يسير بين جمع هائل من البشر في الشوارع الأوربية. هل أصبح الفن مجرد هواية تمارسها صديقتي الفنانة في أوقات الفراغ؟ وغدت الحرب الصناعة الحقيقية للبشر؟ حرب على من؟ ضد من، ولماذا؟ لا يهم كل ذلك. لقد قتل من قتل وشرد من شرد، وما زالت المرأة التي على صدر اللوحة تترقب لحظة الرجوع.
إذا كان تاريخ الانسانية لا يتعلق بالإنسان ويبني نفسه على أساس عدد الحروب التي خاضها، وإذا كان قد فرض على الفرد بوصفه قوة غريبة ليس له عليها أي تأثير، فإن تاريخ الفن (الرسم والموسيقى والأدب والمسرح) ولد من حرية الإنسان، من إبداعاته الشخصية الكاملة، من خياراته. لقد قالها ميلان كونديرا في الوصايا المغدورة: “تاريخ الفن هو انتقام الانسان من لا شخصانية التاريخ الإنساني”.
لقد حكموا وما زالوا يحكمون على السوريين بالموت، وقد يكون من العبث الحديث عن الفن في وسط وضع لا تريد فيه الدول الكبرى لسوريا أن ترتاح، ولكنه في الحقيقة ليس عبثاً، لأنه بالفن فقط، نستطيع أن نصل إلى الحافة التي تفصل الحلم عن الحقيقة وتحويل الأماني الى واقع. الشر الموجود في العالم، لا سبب له غير الجهل وطريق الخلاص منه هو الاجتهاد بالفن، بالكتابة، بالرسم، بالتمثيل، بالغناء، بالرقص.
لم ينضب ماء دمشق ولن ينضب أبداً، ما دامت فسحة الأمل تحيا بالفن. أرى الشاميين في كل ما أقرأ وأرى وأسمع، اذ ليس بالإمكان استرجاع فقه العروبة من دونهم، وحربهم هي حرب العروبة أجمع، ومثلما قال محمد الماغوط في كتاب سأخون وطني: “لم تعد الشعوب بحاجة الى أسئلة وأجوبة، فكل شيء بات واضحاً أمامها الآن، ولا عدو لها سوى أمريكا وحلفائها في العالم أجمع والى اللقاء على أشلائهم جميعاً”.
نشرة التقدمي العدد 126 مايو 2018